في إطار لاينفصل عن فكرة التضليل الإعلامي عرضت قناة "بي بي سي" العربية برنامجاً وثائقياً منذ أيام تناول موضوع تجنيد شباب الأرض المُحتلّة عام 1948، حمل عنواناً تطبيعياً (جنود إسرائيل العرب) تضمّن مُصطلحات سيّئة السُمعة في سياق سياسة ترويج الأمر الواقع للكيان الاستيطاني الاستعماري المُسمّى (إسرائيل) وتبرير سياسته من خلال استخدام كل الوسائل الماكِرة، أبرزها تكثيف التركيز على المؤثّرات العاطفية، وطرح التفاصيل الدقيقة عن حكايات وآراء الشباب والشابات الذين قبلوا بالالتحاق بالجيش الصهيوني وإبرازهم كأنّهم يُمثّلون ظاهرة عامة، على المُتلقّي تقبّل مُبرّراتها المُرتبطة بسياسة العدو الساعية إلى تصيّد فئة الفقراء والعاطلين من العمل و"مضطّربي الهوية" من أجل حملهم على قبول الخدمة في الجيش وفق المسوّغات التي وردت في البرنامج الوثائقي.
ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح وتجاوزه فريق إعداد البرنامج هل وجود "ما بين 52 و54 في المئة من الفلسطينيين في الأرض المُحتلّة عام 1948 تحت خط الفقر يمكن أن يدفع شعباً آثرَ البقاء في أرضه للقبول بهذه النماذج الشاذّة التي وقع التقرير في خطأ مفضوح حيث لا فقر ولا فاقة، بل مجموعة شباب وشابات في منازلهم الفخمة وأمام حفلات شوائهم الاحتفائية بمناسبة الانضمام إلى جيش العدو مرفقاً مع مشهد الثناء على قرارهم البطولي بتسييد ثقافة السلام مع العدو الغاصِب بمُباركة علنية من عوائلهم؟
وحتى تكتمل عملية غسل الأدمغة و"بلف" وتدجين العقول وتسويق فكرة الخيانة لم يغفل التقرير الذي استمر بثّه ما يُقارب الساعة عن تمرير فقرة لا تتجاوز الدقائق عن جماعة الشباب والشابات العربيات الرافِضات لهذه الفئة التي يعتبرون قرارها بالالتحاق بالتجنيد في الجيش الصهيوني خيانة علنية، وكل ذلك بهدف تمرير الرسالة بأن القناة حيادية في طرحها، رغم أن أي مُتابع للبرنامج يستطيع أن يُدرك عملية تزييف الوعي وإظهار شعبنا المُتشبّث بأرضه وهويّته بأنه مُجرّد زُمرة عملاء كل أحلامهم الانتساب إلى كتيبة “غادسر” (كتيبة قصّاصو الأثر المُتجوّلة) وهي وِحدَة من الجنود العرب المسلمين والمسيحين الذين يحملون الجنسية “الإسرائيلية” وتضمّ 500 عنصر داخل الجيش الإسرائيلي، ولها تواجد في كافة الألوية القتالية في الجيش الإسرائيلي، مع أن كل المعلومات الموثّقة وتصريحات الخُبراء بشؤون سكّان الأرض المُحتلّة عام 1948 تؤكّد أنه بالرغم من أن العرب يُشكّلون 20 في المئة من سكان (إسرائيل).
إلا أن 1 في المئة فقط ينضمون إلى الجيش الصهيوني بترتيب مدسوس مقابل حفنة من الشواكل من قِبَل أسماء باتت معروفة ومنبوذة في المجتمع الفلسطيني لن يكون آخرها الكاهن جبرائيل الندّاف القادم من اليونان، الذي سخّره نتنياهو لتجنيد الشباب المسيحي تحديداً ضمن مُخطّط طائفي مَقيت ما زال يتصدّى له شُرفاء فلسطين الذين يعرفون آفاق خطورة مشروع سلخ المسيحيين عن أبناء وطنهم، وعلى قائمتهم المطران عطا الله حنا الذي كان وما زال موقفه واضحاً ومبدئياً من التجنيد، حين قال "كل من يدعو إلى التجنيد لا ينتمي إلينا، نحن مسيحييون ننتمي للأمة العربية ولا نقبل أن يحمل أبناؤنا السلاح وأن يكونوا سبباً في موت أي إنسان، نحن منحازون للقضية الفلسطينية قضيتنا وموقفنا من التجنيد في صفوف الجيش الصهيوني قضية مبدئية وأخلاقية ووطنية لا يمكن المَساس فيها ومُناقشتها لأنها لن تكون يوماً وجهة نظر، ونحن لسنا بصدد الردّ على أشخاص في حلبة المُهاترات الإعلامية".
هذا الموقف الحاسم من المطران عطا الله حنا وغيره من شُرفاء فلسطين الذين يُمثّلون الأكثرية الوطنية المُتشبّثة بالأرض هو المشهد المُلّح والمطلوب إبرازه، في المقابل لما تبقّى من وسائل الإعلام الوطنية الداعمة للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتحديد خياره الوحيد في التحرير المُتمثّل بالمقاومة، وهذا يحتاج إلى الإيمان العميق بمقولة هربرت شيللر في كتابه "المُتلاعبون بالعقول بأن مَن يُسيطر على وسائل الإعلام يُسيطر على العقول، و تجنيد كل الجهود من أجل تقديم تقارير تُسلّط الضوء على أسرى الأرض المُحتلّة عام 1948 المُهمَلين إعلامياً والذين قدّرت الإحصائيات عددهم بما يُقارب ال 200 مُعتقل ومُعتقلة على قائمتهم عميدة الأسيرات لينا الجربوني من بلدة عرابة البطوف في الجليل، المُعتقلَة منذ عام 2002 والتي تقبع الآن في سجن الشارون واستثنتها كافة صفقات الإفراج عن الأسرى سواء التي عُقِدت مع المقاومة أو تلك التي أُبرمت في إطار اتفاقيات التسوية.