قَصية مُسنة
هل شاخت القضية الفلسطينية، وأصابها الهرم، ولَم تعد تقوى بهياكلها المؤسساتية، ونظامها السياسي المتعدد بألوانه ومتجهاته الأيديولوجية أنّ يستنهض ذاته، ويطلق مشروعه الأساسي الذي انطلق على أساس بنيانه وقواعده الراسخة(التحرير)؟! أربعة وسبعون عامًا منذ النكبة، وخمسة وخمسون عامًا منذ النكسة، انتقلت بهما القضية الفلسطينية من كيانية عشائرية الحزبية والتأسيس التي وفق قواعدها الأساسية لَم تتمكن من بناء الكيانية الفلسطينية، وتخطو صوب الدولة الفلسطينية التي كان بالإمكان تحقيقها، والصمود في وجه العصابات الصهيونية لو تمَّ فعلًا العمل وفق قواعد وأسس التحرير المنظم، وصياغة التوحيد المستهدف في النّظام الذي كان قائمًا، ولكن بعدما سقطت الأرض تحت بساطير الجيوش العربية والمقاتلين الفلسطينيين البسطاء الذين افتقدوا لكل معاني التنظيم والتدريب، وإنما القتال وفق قواعد الفطرة القتالية الوطنية، والإرادة المنبعثة من التمسك بالأرض، استكملت الجيوش ذاتها العربية والمقاتل الذي انطوى تحت لوائها ضياع ما تبقى من أرض، وأصبح الوطن يسعى للملمة أشلاء الحاضر ليقف على قدميه من جديد ويعيد بناء الكيانية الحديثة وفق أسس البناء الثوري والعنف الثوري متسلحًا بألوان وتلاوين الأيديولوجيا والتحليل النظري، وأدبيات التجارب الثورية العالمية.
صاغ النّظام المنبعث من شذرات النكسة معالم الطريق بميثاق وطني يؤسس لمعركة ثورية تتجلى بها ملامح التحرير، وإقامة الوطن المستقل بكل أبنائه وشعبه وإعادة من سكنوا مخيمات الموت في المهجر، ومخيمات الموت في اللجوء القسري في داخل الوطن، وبناء القرية المغتصبة التي لا زال سكانها صامدون فيها ينتظرون ثوار الحرية. مضت السنين وسرق العمر زهرات الربيع الفلسطينية لتمضي الشعارات الوطنية في التسرب لخلد الفلسطيني الذي يتمسك بالأرض، وينتظر تباشير الحرية والتحرير، ولَم تخطو الثورة بتركيبتها وهيكلها العلماني والماركسي والشيوعي والديني أنّ تساير مواكب العودة إلَّا عبّر قارب صغير لا يتسع لأكثر من حكم إداري اسموه أوسلو ليحط شراعه المتهالك على مرسى غزة واريحا، وفق قواعد اللاإشتباك، واللاسلم، لتمضي الأيدي المستنفرة بناء مؤسسات الدولة وأجهزة الدولة المنتظرة التي لَم يمض عليها إلَّا سبع سنين وتتهالك وتنهار تحت (اللا) الصهيونية، والتسويف والمماطلة لتسقط كل لاءات الحرية التي كانت تتدلى بشائرها كقناديل تزدان بها شوارع المخيم، وطرقات القرية، ومعالم المدينة، ويهدم العدو ما تمَّ بنائه عبّر سنوات قليلة حاول الجراح الفلسطيني أنّ يضمد جزء من جراحة الناقحة في ضميره الثائر، ولكن الحلم لم يصبح حقيقة ولكنه تعبير عن أمنية لَم تتحقق. وبدأت إرهاصات الإعادة في عجلة التاريخ، والإنحراف في مسار البوصلة المرسوم عبّر أحلام الأوسلويين في يقظتهم الحالمة بوطنِ ودولة وحرية وتحرير، لتتساقط وتتهاوى قواعد الثبات الثورية التي غرست في وهج الموروث الثوري المستثور. ونبدأ من جديد في البحث عن قلعة جديدة تبدأ من حيث توقفت قاطرة الوطن، لتشد الرحال ولكنها لَم تحمل الرجال ولَم تحمل الرايات لرفعها فوق جبال الخليل ونابلس وجنين وطولكرم ورام الله وبيت لحم، بل حملت خيبات البندقية المتنازعة والمتصارعة حول غزة لتسقط في وحل غادرته العزة، وتتشظى ملامح الوطن أو الجزيئ الذي ارتضينا بأنّ يكون هو الوطن، وتبدأ رحلة الأسفار، والأصفار من جديد في رصد حركة التغيير، ومعالم التحرير.
وتستقل غزة وتنفصل عن توأمها السيامي الضفة الغربية، ويصبح لكل معلم منهما مشروعه الخاص والمتخصص في استحلاب المواطن من جهة، وجلب المتبرع من جهة أخرى، ليستمر عمر التشظي يمر بنا إلى أنّ تجاوزنا مرحلة الشباب، ومن ثمَّ الهرم، وها نحن نشيخ كما تشيخ قضيتنا التي أصبحت بلا ملامح شبابية أو حيوية فتية تشد عضدها بأخيها أو حتى بأبيها، فالأخ عض بنان أخيه وقضمه، والأب انحنى ظهره ولَم يعد يعتدل في مشيته، فخارت القوة وأصابنا الهزل كما بنى ابن خلدون نظريته وفق مراحل العمر.
وأصبحن إرادتنا وردات فعلنا متوقفة على الإبتهال والدعاء بأن ينهض شاب يتمطي بندقيته ليزف لنا ملامح فرد بعملية بطولية، أو أنّ تقوم غزة باطلاق صاروخ عابر للإحباط من موانئ القهر الوطني صوب الأمل المفقود، وغير المعقود.
لقد شاخت قضيتنا وأصبحت قضية مُسنة لماذا؟
لأن مفهوم التحرير أصبح مشروع نظري مستخدم من كل قوانا غير الحية لقضاء احتياجاتنا النفسية فقط، وإشباع غرورنا الذاتي بأننا لا زلنا نقبض على سلاح الإيمان والحتمية، لأننا فقدنا شعارات أمنا بها .... إنها لثورة حتى النصر، وحتمًا لمنتصرون، فهل تتذكرون؟!
تسلحت غزة وتحولت لأشبه بجيوش نظامية تخوض معارك تقليدية أشبه بالمعارك التحريكية المعتادة أطلاق بضع صواريخ، ومن ثمَّ دفن الجثامين والإنتظار لتحديد موعد جديد، وإعادة لما قاله لنا فلاحين وشيوخ ثورة 1936 " أدفنوا موتاكم وأذهبوا لأعمالكم"، حتى نستطلع الهلال من جديد.
فالمشروع الذي نراه اليوم هو أقرب بمشروع شيخ مُسن بلغ التسعون من العمر، وبالكاد يبصر أقرب نقطة اتصال ممكن أنّ يستوضح ملامح ما أمامه، مشروع يتكلس في غزة عودة لشعار السبعينات التي طرحته الإدارة الصهيونية(غزة أولًا)، وحكم بلديات ومحليات في الضفة الغربية، ولَم يعد بعيدًا هذا الواقع، بل نراه قريبًا ويتمَّ الإعداد له بشكل متدرج ومنتظم، والأهم إننا مبصريه، ونراه أمامنا كشاخص يحجب رؤيتنا، ولكننا نستمتع بالأستعماء لأننا إنّ لَم نكن مشاركون، فنحن عاجزون عن الفعل، وعن رد الفعل.
شاخت قضيتنا لأننا لَم نعد نتسلح بعضلات فتية تستطيع الضغط على زند الحقيقة، وقدح الإرادة لبناء مشروعنا الأهم، وتحديد عنوانا الرئيسي (فلسطين)، بل اليوم نحدد ملامح تحويلات المقاصة، وتحويلات مساعدات المانحين من جهة، وحقيبة السيد القطري من جهة أخرى، لنطعم الأفواه الجوعى حتى لا تتكدر وتثور لتحرق الذات والتحصيص السائد، والبقية من سواعد الوطن الحزبية تعيد عمليات التجديد والتحديث في أطرها القائمة على الدهوكة، والفبركة، والتسويف لإقصاء كل من يؤمن بالنضال، واستجلاب كل من يؤمن بقضاء حوائجكم بالستر، ومفهوم الستر لديهم استرني أسترك.
لقد انتقلنا من الفعل المأمول بوطنٍ فتي يعيد لنا وجودية الحقيقة الوطنية، إلى مربع الموت الصامت لهثًا خلف منجز لا يرتقي لأكبر من تصريح عمل يرحم شبابنا من الموت افتراسُا كطعام للأسماك، أو كوب لبن من أحد الشركات المصدرة لنا قوتنا، أو فسحة أمل برفع بعض المعيقات عن معابرنا الحية في ضمير لَم يعد حي. نعم، لقد شاخت قضيتنا وأصبحت مسنة لأننا لَم نعد نرى فتونة الشباب، وحيوية الرجال، وعزيمة الثوار، وإرادة الأحرار، ولَم نعد نرى ملامح مشروعنا الذي هتف له الختيار عشرات المرات" أراها قريبة .... أراها قريبة" ولَم يراها منا أيّ غلام يسأل عن ما هي التي نراها أو التي رأها الختيار؟!
ملاحظة: اعجبني بالأمس حديث تلفوني مع أحد الأصدقاء ونحن نتجادل في نقاش عن وطنيتنا، عندما قال لي يا صديقي أنظر لقيادتنا أين هي، نحن تحولنا لمستخدمين، ولَم نعد فاعلين.
د. سامي محمد الأخرس |