عبد الباري عطوان
اكبر خطأ ترتكبه الدول الغربية التي تشهر سيف العداء في وجه ايران هذه الأيام، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، انها تسيء تقدير قوة الخصم الإيراني وحلفائه، وردود فعلهم المحتملة تجاه استفزازاتها السياسية والعسكرية والتصعيد الحالي في منطقة الخليج، وما يتفرع عنه من أزمات، مثل حرب احتجاز الناقلات، هو المثال الأبرز في هذا الصدد.
عندما حذر السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، قبل أسبوع من استمرار بريطانيا في احتجاز ناقلة نفط إيرانية اثناء مرورها عبر مضيق جبل طارق في طريقها الى ميناء بانياس على الساحل الشمالي السوري، اعتقدت السلطات البريطانية في لندن، ان هذه التهديدات مجرد كلمات جوفاء، ولن تترجم مطلقا الى خطوات عملية، وها هو الحرس الثوري ينفذها حرفيا، ويحتجز ناقلة نفط بريطانية في مضيق هرمز، قال متحدث باسمه انها انتهكت قوانين الملاحة المتبعة، واصطدمت بزورق إيراني، ولوثت مياه الخليج.
***
بريطانيا عندما أقدمت على احتجاز ناقلة النفط الإيرانية “غريس 1” لم تفعل ذلك لأنها اخترقت قوانين الملاحة الدولية، وانما لان التعليمات جاءتها من واشنطن والرئيس دونالد ترامب تحديدا، وزوارق الحرس الثوري عندما اقدمت على ردها الانتقامي بإحتجاز ناقلتين بريطانيتين في مياه الخليج (افرجت عن احداها لاحقا) لم تفعل ذلك بسبب حادثة الصدام، او تلويث مياه الخليج، وانما لاستخدام هذه الناقلة كورقة ضغط على السلطات البريطانية لإجبارها بالقوة للإفراج عن الناقلة الإيرانية وفي اسرع وقت ممكن.
القيادة الإيرانية تريد إيصال رسالة واضحة الى الدول الغربية، والولايات المتحدة خاصة، انها تقول وتفعل، ولن تصمت ابدا تجاه أي خطوة عدوانية ترتكب ضدها ومصالحها، وستذهب حتى نهاية الشوط دون أي خوف، حتى لو تطورت الأمور الى حرب شاملة، المهم انها لن تكرر خطأ العراق، وتخضع لحصار اقتصادي لشعبها يمتد لسنوات، وتكلل بإسقاط النظام وتدمير البلاد، وتأمل ان تكون هذه الرسالة قد وصلت، وتم استيعاب كلماتها الواضحة.
هذه القيادة لن تسمح بتجويع شعبها ومنع صادراتها النفطية، ولن ترهبها الاساطيل وحاملات الطائرات الامريكية، ولن تذهب الى مائدة المفاوضات الا بشروطها، ولم تتردد لحظة في اسقاط طائرة تجسس مسيرة اخترقت اجواءها بعدة امتار الشهر الماضي، وكانت وفيّه للعهد عندما نفذت تهديداتها بالعودة الى تخصيب اليورانيوم بمعدلات اعلى من المتفق عليها في الاتفاق النووي، وزيادة مخزونها منه، بكميات وبسقف مفتوح، والقادم اعظم.
الملاحة البحرية في مياه الخليج ومضيق هرمز كانت آمنة، ولم تواجه أي مشاكل لعدة عقود الا بعد انسحاب الإدارة الامريكية من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات تحظر تصدير النفط الإيراني الى زبائنه في الصين واليابان، وتركيا، والهند، ولهذا عندما تتحدث إدارة الرئيس ترامب عن تشكيل تحالف “الراغبين” لتأمين الملاحة في مضيق هرمز، فان على جميع الدول التي قد تستجيب لطلبها، ادارك هذه الحقيقة.
القيادة الإيرانية تعيش حالة من “المزاج الانتحاري”، او “الاستشهادي” على الاصح، ولن يردعها تحالف دولي بزعامة الولايات المتحدة، وعضوية بعض الدول الخليجية والأوروبية، ومن يقول غير ذلك لا يعرف هذه القيادة، واستراتيجيتها الدفاعية، ونوعية تركيبتها النفسية والعسكرية، الامر الذي سيدفعها نحو خطأ استراتيجي كارثي آخر ستدفع ثمنه الباهظ من امنها واستقرارها ومصالح حلفائها في المنطقة.
حتى كتابة هذه السطور لم ترحب دولة واحدة بالانضمام الى هذا التحالف الأمريكي الجديد المقترح، باستثناء دولتي السعودية والامارات، استجابة لضغوط أمريكية، وللقيام بمهمة ابتزازية قديمة متجددة، وهي تمويل هذا التحالف الباهظ التكاليف، ودفع نفقات وقود السفن المشاركة، وصيانتها وتخزينها، ومن أموال شعبها واجيالها القادمة.
ايران قوية ليس لأنها تملك ترسانة هائلة من الصواريخ الباليستية، والسفن والزوارق البحرية الصغيرة والسريعة والمتوسطة التي لا ترصدها الرادارات، وانما أيضا لامتلاك قيادتها الإرادة، والقدرة، على اتخاذ القرار، بالردود الانتقامية على أي عدوان تتعرض له، وايا كانت الجهة التي تقف خلفه.
***
في برنامج Dateline London، الأسبوعي الشهير الذي تبثه قناةBBC التلفزيونية العالمية باللغة الإنكليزية، سألتني المذيعة اليوم: ماذا تنصح السيدة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، ان تفعل لو كنت مستشارها، تجاه هذه الخطوة الإيرانية بإحتجاز احدى ناقلاتها، فأجبت بأنني لست مستشارا، ولن أكون أولا، وانصحها بالإفراج عن الناقلة الإيرانية المحتجزة فورا، ودون أي تأخير ثانيا، والابتعاد كليا عن الرئيس ترامب وسياساته المتهورة ثالثا، والا فإنها ستواجه حزمة ضخمة من المشاكل في منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج تحديدا رابعا.
نختم هذه المقالة بالتحذير من أن وجود الإرادة القوية بالرد ليست مقصورة على القيادة الإيرانية فقط، وانما لدى كل حلفائها في محور المقاومة، في سورية، في العراق، في لبنان، في اليمن، في قطاع غزة، وعلى ترامب ان يدرك جيدا ان الزمن الذي كان تتدافع فيه الدول للمشاركة في احلافه، وخوض حروبه في الشرق الأوسط، ولا تجد مقاومة شرسة دفاعا عن كرامتها الوطنية خاصة اذا كانت المستهدفة دولا تنتمي الى محور المقاومة، قد ولى الى غير رجعة.. ونحن امام عصر جديد مختلف، عصر التضحية والفداء.. ورفض الاملاءات والابتزازات الغربية العدوانية والتصدي لها.. والأيام بيننا.